فصل: قال السعدي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وللمفسرين مناح كثيرة في تفسير ألفاظها ذكر القرطبي خمسة منها، وذكر في الكشاف تأويلًا آخر، وذكر الطيبي تأويلين راجعين إلى تأويل الكشاف، واتفق جميعهم على أن المقصد منها الترغيب في المصالحة عن الدماء، وينبغي ألا نذهب بأفهام الناظر طرائق قددًا، فالقول الفصل أن نقول: إن ما صدق من في قوله: {فمن عفي له} هو ولي المقتول وإن المراد بأخيه هو القاتل وصفًا بأنه أخ تذكيرًا بأخوة الإسلام وترقيقًا لنفس ولي المقتول؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخًا له كان من المروءة ألا يرضى بالقَوَد منه؛ لأنه كمن رضي بقتل أخيه، ولقد قال بعض العرب: قتل أخوه ابنًا له عمدًا فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف وقال:
أَقول للنفس تَأْسَاءً وتَعْزيَة ** إِحدى يَدَيَّ أصابتْني ولم تُرِدِ

كِلاَهُما خَلَفٌ من فَقْدِ صاحبه ** هَذَا أخي حينَ أَدْعُوهُ وذَا ولَدِي

وما صدق {شيء} هو عرض الصلح، ولفظ شيء اسم متوغل في التنكير دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام، وقد تقدم حسن موقع كلمة شيء عند قوله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} [البقرة: 155].
ومعنى {عفي له من أخيه} أنه أعطى العفو أي الميسور على القاتل من عوض الصلح. ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله وقد فسر به العفو من قوله تعالى: {خذ العفو} [الأعراف: 199]، وإيثار هذا الفعل لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة وهي من خلق الإسلام فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله: {من أخيه}، والتعيبر عن عوض الدم بشيء لأن العوض يختلف فقد يُعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معينًا كما هو في دية قتل الخطأ.
واتّباع وأداء مصدران وقعا عوضًا عن فعلين والتقدير: فليتبع اتباعًا وليؤد أداء فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى: {قال سلام} [هود: 69] بعد قوله: {قالوا سلامًا} [هود: 69]، وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعًا عند قوله تعالى: {الحمد لله} [الفاتحة: 2]، فنظم الكلام: فاتباعٌ حاصلٌ ممن عفي له من أخيه شيء وأداءٌ حاصل من أخيه إليه، وفي هذا تحريض لمن عفي له على أن يقبل ما عفي له وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان. والاتباع مستعمل في القبول والرضا، أي فليرض بما عفي له كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا أتبع أحدكم على مَلِيء فليتبع».
والضمير المقدر في اتباع عائد إلى {من عفي له} والضمير المقدر في أدَاء عائد إلى أخيه، والمعنى: فليرضى بما بذل له من الصلح المتيسر، وليؤد باذلُ الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص، والضمير المجرور باللام والضمير المجرور بإلى عائداننِ على {فمن عفي له}.
ومقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلًا من القصاص لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتَعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد ويعدونه بيعًا لدم مولاهم كما قال مُرَّةُ الفَقْعَسِي:
فلا تَأْخذوا عَقْلًا من القَوْم إِنَّنِي ** أَرى العَارَ يبقَى والمَعَاقِلَ تَذْهَبُ

وقال غيره يَذْكر قومًا لم يَقْبَلوا منه صلحًا عن قتيل:
فلَوْ أَنَّ حيًّا يقبَلُ المالَ فِدْيَةً ** لسُقْنَا لهم سَبْبًا من المال مُفْعَمَا

ولكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصيبَ أخُوهُمُ ** رِضَا العَار فاختاروا على اللَّبَن الدَّمَا

وهذا كله في العفو على قتل العمد وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل وسيأتي في سورة النساء.
وإطلاقُ وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيسُ أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الإِخوة، وحَقًّا فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية والروح أشرف من الجسد. اهـ.
أبحاث لفظية في معرض السؤال والجواب للعلامة فخر الدين الرازى.
البحث الأول: كيف تركيب قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَئ}.
الجواب: تقديره: فمن له من أخيه شيء من العفو، وهو كقوله: سير بزيد بعض السير وطائفة من السير.
البحث الثاني: أن {عُفِيَ} يتعدى بعن لا باللام، فما وجه قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ}.
الجواب: أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب، فيقال عفوت عن فلان وعن ذنبه قال الله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ} [التوبة: 43] فإذا تعدى إلى الذنب قيل: عفوت عن فلان عما جنى، كما تقول: عفوت له عن ذنبه، وتجاوزت له عنه، وعليه هذه الآية، كأنه قيل: فمن عفي له من جنايته، فاستغنى عن ذكر الجناية.
البحث الثالث: لم قيل شيء من العفو؟.
والجواب: من وجهين أحدهما: أن هذا إنمايشكل إذا كان الحق ليس إلا القود فقط، فحينئذ يقال: القود لا يتبعض فلا يبقى لقوله: {شَئ} فائدة، أما إذا كان مجموع حقه إما القود وإما المال كان مجموع حقه متبعضًا لأن له أن يعفو عن القود دون المال، وله أن يعفو عن الكل، فلما كان الأمر كذلك جاز أن يقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَئ}.
والجواب الثاني: أن تنكير الشيء يفيد فائدة عظيمة، لأنه يجوز أن يتوهم أن العفو لا يؤثر في سقوط القود، إلا أن يكون عفوًا عن جميعه، فبين تعالى أن العفو عن جزئه كالعفو عن كله في سقوط القود، وعفو بعض الأولياء عن حقه، كعفو جميعهم عن خلقهم، فلو عرف الشيء كان لا يفهم منه ذلك، فلما نكره صار هذا المعنى مفهومًا منه، فلذلك قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَئ}.
البحث الرابع: بأي معنى أثبت الله وصف الأخوة.
والجواب: قيل: إن ابن عباس تمسك بهذه الآية في بيان كون الفاسق مؤمنًا من ثلاثة أوجه: الأول: أنه تعالى سماه مؤمنًا حال ما وجب القصاص عليه، وإنما وجب القصاص عليه إذا صدر عنه القتل العمد العدوان وهو بالإجماع من الكبائر، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن والثاني: أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم، ولا شك أن هذه الأخوة تكون بسبب الدين، لقوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 15] فلولا أن الإيمان باقٍ مع الفسق وإلا لما بقيت الأخوة الحاصلة بسبب الإيمان الثالث: أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل، والندب إلى العفو إنما يليق بالمؤمن، أجابت المعتزلة عن الوجه الأول فقالوا: إن قلنا المخاطب بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} هم الأئمة فالسؤال زائل، وإن قلنا: إنهم هم القاتلون فجوابه من وجهين أحدهما: أن القاتل قبل إقدامه على القتل كان مؤمنًا، فسماه الله تعالى مؤمنًا بهذا التأويل والثاني: أن القاتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمنًا، ثم إنه تعالى أدخل فيه غير التائب على سبيل التغليب.
وأما الوجه الثاني: وهو ذكر الأخوة، فأجابوا عنه من وجوه الأول: أن الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحدًا، ولا شك أن المؤمنين إخوة قبل الإقدام على القتل والثاني: الظاهر أن الفاسق يتوب، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخًا له والثالث: يجوز أن يكون جعله أخًا له في النسب كقوله تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] والرابع: أنه حصل بين ولي الدم وبين القاتل تعلق واختصاص، وهذا القدر يكفي في إطلاق اسم الأخوة، كم تقول للرجل، قل لصاحبك كذا إذا كان بينهما أدنى تعلق والخامس: ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية في الإقرار والاعتقاد.
والجواب: أن هذه الوجوه بأسرها تقتضي تقييد الأخوة بزمان دون زمان، وبصفة دون صفة، والله تعالى أثبت الأخوة على الإطلاق. اهـ.

.قال الفخر:

وأما قوله تعالى: {فاتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بإحسان} ففيه أبحاث: البحث الأول: قوله: {فاتباع بالمعروف} رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره: فحكمه اتباع، أو هو مبتدأ خبره محذوف تقديره: فعليه اتباع بالمعروف.
البحث الثاني: قيل: على العافي الاتباع بالمعروف، وعلى المعفو عنه أداء بإحسان، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، وقيل: هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف، ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان.
البحث الثالث: الاتباع بالمعروف أن لا يشدد بالمطالبة، بل يجرى فيها على العادة المألوفة فإن كان معسرًا فالنظرة، وإن كان واجدًا لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق، وإن كان واجدًا لغير المال الواجب، فالإمهال إلى أن يبتاع ويستبدل، وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات، فأما الأداء بإحسان فالمراد به أن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل. اهـ.
قال الفخر:
أما قوله تعالى: {ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ففيه وجوه أحدها: أن المراد بقوله: {ذلك} أي الحكم بشرع القصاص والدية تخفيف في حقكم، لأن العفو وأخذ الدية محرمان على أهل التوراة والقصاص مكتوب عليهم ألبتة والقصاص والدية محرمان على أهل الإنجيل والعفو مكتوب عليهم وهذه الأمة مخيرة بين القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيرًا، وهذا قول ابن عباس، وثانيها: أن قوله: {ذلك} راجع إلى قوله: {فاتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بإحسان}. اهـ.
قال الفخر:
أما قوله: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} التخفيف يعني جاوز الحد إلى ما هو أكثر منه قال ابن عباس والحسن: المراد أن لا يقتل بعد العفو والدية، وذلك لأن أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية، ثم ظفروا بعد ذلك بالقاتل قتلوه، فنهى الله عن ذلك وقيل المراد: أن يقتل غير قاتله، أو أكثر من قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية أو جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص ويجب أن يحمل على الجميع لعموم اللفظ {فله عذاب أليم} وفيه قولان أحدهما: وهو المشهور أنه نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة والثاني: روي عن قتادة أن العذاب الأليم هو أن يقتل لا محالة ولا يعفى عنه ولا يقبل الدية منه لقوله عليه السلام: «لا أعافي أحدًا قتل بعد أن أخذ الدية» وهو المروي عن الحسن وسعيد بن جبير وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها: أن المفهوم من العذاب الأليم عند الإطلاق هو عذاب الآخرة وثانيها: أنا بينا أن القود تارة يكون عذابًا وتارة يكون امتحانًا، كما في حق التائب فلا يصح إطلاق اسم العذاب عليه إلا في وجه دون وجه وثالثها: أن القاتل لمن عفي عنه لا يجوز أن يختص بأن لا يمكن ولي الدم من العفو عنه لأن ذلك حق ولي الدم فله إسقاطه قياسًا على تمكنه من إسقاط سائر الحقوق والله أعلم. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} الآيةَ: {كُتِبَ}: معناه: فُرِضَ، وأُثْبِتَ، وصورةُ فَرْضِ القصاصِ، هو أنَّ القاتل فُرِضَ عليه، إِذا أراد الوليُّ القتل، الاِستسلامُ لأمر اللَّه، وأن الوليَّ فرض عليه الوقوفُ عند قتل وليِّه، وترك التعدِّي على غيره، فإِن وقع الرضَا بدون القصاص من دية أو عفو، فذلك مباحٌ، والآية معلِّمة أن القِصَاصَ هو الغايةُ عند التَّشَاحِّ، و{القصاص}: مأخوذ من: قَصِّ الأثر؛ فكأن القاتل سلك طريقًا من القتل، فقص أثره فيها.
روي عن ابن عَبَّاس؛ أنَّ هذه الآية مُحْكَمة، وفيها إِجمال فسَّرته آية المائدة، وأن قوله سبحانه: {الحر بِالْحُرِّ} يعمُّ الرجال والنساء، وأجمعتِ الأمة على قتل الرجُلِ بالمرأةِ، والمرأة بالرجل.
وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآيةَ: فيه تأويلاتٌ:
أحدها: أنَّ مَنْ يرادُ بها القاتلُ، و{عُفِيَ}: تتضمن عافيًا، وهو وليُّ الدم، والأخُ: هو المقتولُ، و{شَيْءٌ}: هو الدمُ الذي يعفى عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابْنِ عَبَّاس، وجماعة من العلماء، والعَفْوُ على هذا القولِ على بابه.
والتأويلُ الثَّاني: وهو قول مالكٍ؛ أنَّ مَنْ يراد بها الوليُّ، وعُفِيَ: بمعنى: يُسِّرَ، لا على بابها في العَفْو، والأخُ: يراد به القاتل، و{شَيْءٌ}: هي الديةُ، والأخوَّة على هذا أخوَّة الإِسلام.
والتأويل الثالثُ: أنَّ هذه الألفاظ في معنى: الَّذين نزلَتْ فيهم الآيةُ، وهم قومٌ تقاتَلُوا، فقتل بعضُهم بعضًا، فأُمِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يصلحَ بينهم، ويُقَاصَّهم بعضَهم من بعض بالدِّيَات على استواء الأحرار بالأحرار، والنساء بالنساء، والعبيد بالعبيد، فمعنى الآية: فمن فضِل له من إِحدى الطائفتين على الأخرى شيْءٌ من تلك الدِّيَاتِ، وتكون: {عُفِيَ} بمعنى فَضِلَ.
وقوله تعالى: {فاتباع}: تقديره: فالواجبُ والحُكْمُ: اتباع، وهذا سبيلُ الواجباتِ؛ كقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] وأما المندوبُ إِلَيْه، فيأتي منصوبًا؛ كقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4]، وهذه الآية حضٌّ من اللَّه تعالى على حسن الاقتضاءِ من الطالِبِ، وحُسْنِ القضاء من المُؤَدِّي.
وقوله سبحانه: {ذلك تَخْفِيفٌ} إِشارة إِلى ما شرعه لهذه الأمة، من أخذ الدية، وكانت بنو إِسرائيل لا ديَةَ عندهم، إِنما هو القِصَاصُ فَقَطْ، والاعتداء المتوعَّد عليه في هذه الآية، هو أنْ يأخذ الرجُلُ ديةَ وليِّه، ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم. اهـ.

.قال السعدي:

يمتن تعالى على عباده المؤمنين، بأنه فرض عليهم {الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} أي: المساواة فيه، وأن يقتل القاتل على الصفة، التي قتل عليها المقتول، إقامة للعدل والقسط بين العباد.
وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين، فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول، إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد، ويمنعوا الولي من الاقتصاص، كما عليه عادة الجاهلية، ومن أشبههم من إيواء المحدثين.
ثم بيَّن تفصيل ذلك فقال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} يدخل بمنطوقها، الذكر بالذكر، {وَالأنْثَى بِالأنْثَى} والأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى، فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله: {الأنثى بالأنثى} مع دلالة السنة، على أن الذكر يقتل بالأنثى، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا، فلا يقتلان بالولد، لورود السنة بذلك، مع أن في قوله: {الْقِصَاصُ} ما يدل على أنه ليس من العدل، أن يقتل الوالد بولده، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة، ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله، أو أذية شديدة جدا من الولد له.
وخرج من العموم أيضا، الكافر بالسنة، مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة.
وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه، والعبد بالعبد، ذكرا كان أو أنثى، تساوت قيمتهما أو اختلفت، ودل بمفهومها على أن الحر، لا يقتل بالعبد، لكونه غير مساو له، والأنثى بالأنثى، أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة، وتقدم وجه ذلك.
وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل، وأن الدية بدل عنه، فلهذا قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي: عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية، أو عفا بعض الأولياء، فإنه يسقط القصاص، وتجب الدية، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي.
فإذا عفا عنه وجب على الولي، أي: ولي المقتول أن يتبع القاتل {بِالْمَعْرُوفِ} من غير أن يشق عليه، ولا يحمله ما لا يطيق، بل يحسن الاقتضاء والطلب، ولا يحرجه.
وعلى القاتل {أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} من غير مطل ولا نقص، ولا إساءة فعلية أو قولية، فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو، إلا الإحسان بحسن القضاء، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه الحق، بالأداء بإحسان (2).
وفي قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأحسن من ذلك العفو مجانا.
وفي قوله: {أَخِيهِ} دليل على أن القاتل لا يكفر، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان، فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر، لا يكفر بها فاعلها، وإنما ينقص بذلك إيمانه.
وإذا عفا أولياء المقتول، أو عفا بعضهم، احتقن دم القاتل، وصار معصوما منهم ومن غيرهم، ولهذا قال: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي: بعد العفو {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الآخرة، وأما قتله وعدمه، فيؤخذ مما تقدم، لأنه قتل مكافئا له، فيجب قتله بذلك.
وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل، فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله، ولا يجوز العفو عنه، وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول، لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره. اهـ.